لماذا لا تنام الأموال في أمسمرير؟
بوفدام عبد الرحمان/أمسمرير
كلما ذكر أمسمرير في محضر من لا يعرف، قورن بأصحاب المال والمقاولين. تلك الثلة التي حالفها الحظ فغادرت قيعان الحاجة والفقر، إلى أماكن أخرى تنضح بالحياة. فمنهم من اختار الاستقرار هناك إلى الأبد، ومنهم من عاد يؤازر أبناء الوطن الجريح في محنة الحياة العامة، ومنهم من يحاول إعادة الاعتبار لهذه الربوع المخنوقة بفعل الهشاشة والتهميش.
نحن هنا لسنا بصدد اقتفاء أثر هؤلاء المحظوظين، ولا لتسليط الضوء على نجاحاتهم وإن كانت تثلج صدورنا إلى حد كبير، إنما غرضنا هو التلميح إلى حجم التناقض الصارخ بين ما هم قائمون عليه هناك وما هو قائم هنا.
من يعيش هنا، لا يحتاج إلى عقلية ناقدة ليشرح -(بتشديد الراء)- الأشياء. بل يحتاج فقط إلى عين لا زالت ترى، عين لا تزال آلية المقارنة تعمل داخلها. فيمعن في الشارع الوحيد الذي يشطر المنطقة إلى نصفين، نصف أعطى ظهره للجبل ونصف آخر يطل بكامل جسمه على الوادي. تكفيه هذه النظرة ليرى حجم النقص الذي تعاني منه هذه الربوع، على مستوى مجالات مختلفة. حاجة الإنسان إلى الخبز هي الأولى، لكن “ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان”.
وقفت كم مرة أتساءل: كيف يمكن لأبناء هذه المنطقة أن يحركوا اقتصادات مدن عديدة في المغرب في الوقت الذي تفتقر فيه منطقتهم لوكالة بنكية واحدة؟
في المنطقة وكالة للبريد وحيدة، تؤدي أدوارها بالشكل المطلوب، لكنها غير كافية بالمقارنة مع الخدمات التي يحتاج إليها عدد لا يستهان به من المقاولين والموظفين هنا. فيحتاج الواحد منا إلى قطع ما يناهز سبعين كيلومترا للوصول إلى أقرب وكالة بنكية، في ظل برنامج عمل يمتد من الاثنين إلى السبت. الأمر الذي يطرح إشكالات لا يعلم بها سوى الذين يكتوون بنيرانها.
ثم أحرك عيني ذات اليمين وذات الشمال، فأتساءل السؤال الثاني: كيف يمكن لهذه المنطقة التي أنتجت رموزا وكفاءات في ميدان التربية العلوم أن تبقى بدون “دار للثقافة” أو “دار للشباب”؟
ترى الشباب مقبل على صنوف العادات السلبية في مخابئ هذه الربوع الجبلية متواطئين في ذلك مع شبح الفراغ الذي يحولهم بوثيرة بطيئة إلى كائنات فوضوية تافهة ومدمرة، لا يدفع فاتورة تفاهتهم سوى المجتمع. كأن السياسيين الذين يملؤون الدنيا ضجيجا أيام الانتخابات ينطبق عليهم ما جاء في الآية الكريمة “فأغشيناهم فهم لا يبصرون”. فلا يضيرهم أن يروا أبناء منطقتهم يموتون موتا بطيئا بمحاذاة حيطان الجماعة القروية أو المخابئ الكثيرة، وهم منغمسون في عادات لا يمكن ان تسفر إلا عن شباب لا هادف ينقلب على المجتمع فيجرمه ثم ينتقم منه ولو بعد حين.
أتساءل مرة أخرى والسؤال مشروع: أين تلك الوعود الانتخابية الموسومة بعطر النفاق؟ أين كل ذلك الكلام المعسول الجميل؟
ثم أرجع إلى الواقع لأرى نقاشات تصب كلها في ناحية الاقتتال الحزبي، الصراع العرقي والقبلي، البرامج الاسترزاقية، جمعيات تضرب الأخماس في الأسداس محاولة ترقيع ما يمكن ترقيعه، في غياب تام “لوعي جماعي” يمكنه انتشال هذه الربوع الموبوءة بمرض الاقصاء من قيعان الذل والتهميش. إن الشباب الذي يحسب نفسه “مثقفا” بين آلاف الأقواس، لا يزال يتخبط في العشوائية والفوضوية. فتراه يحمل شعارات كبيرة لا تستجيب لتطلعات تلك الأم (الأم هنا قد تعني المنطقة أيضا) المنهوكة بفعل التاريخ والجغرافيا. أعتقد أنه من المهم جدا أن يدافع الإنسان عن “فكرته”، بيد أن الأهم أن يعمل الإنسان بمبدأ الأولويات، فلنحاول إذن إعادة بناء الإنسان أولا، ومن ثم المرور إلى الأفكار، إذ لا تستقيم الفكرة في ظل انعدام الانسان. فلنعد إذن إلى أحضان الكتاب ونغوص فيه علنا ننقد ما تبقى من إنسانيتنا.
من الحكيم جدا أن ينخرط “الشباب المثقف” في العملية الاجتماعية، وقد يتساءل سائل كيف؟ أما أنا فأعتقد أن “تأطير” الذوات الشاردة هو أجمل وأفضل عمل قد نقوم به من أجل المجتمع. فلتتنازل الأحزاب السياسية عن برجها العاجي لتؤطر الشباب سياسيا، فلتتنازل الجمعيات لتؤطر الشباب ثقافيا واجتماعيا، فلتتنازل الذوات المثقفة لتؤطر الشباب علميا وثقافيا، وهكذا يتأتى لنا مجتمع هادف يجدف في اتجاه هدف أسمى.
من الحكمة جدا أن نناضل من أجل الأفكار، لكن عين الحكمة أن ننتضل من أجل مؤسسات كفيلة بصياغة الإنسان “كي لا نهدر عمرا في سبيل الحياة دون ان نعيش”. فلنطالب إذن بدور للثقافة، دور للشباب، ملاعب قرب، مؤسسات في المستوى..
تلكم والله حرقة حركت القلم فوق الأوراق، عسى أن تسطع شمس المعرفة والإبداع في هذه الربوع الحالكة حتى يتسنى لنا العيش في كنف مجتمع هادف يحمل أبناؤه مشروع حياة كريمة ذات معنى.
أمسمرير في 13 مارس 2019